وقد تضمحل وتتهشم أقلام وأقلام، وما تفي بذرة مما تريد، من تعريف للعالم أجمع، وللإنسانية بكل ما تحتويه، بجزء يسير من حياتها الملكوتية المباركة، وسيرتها المكلّلة والمحاطة بألف ألف قنديل ومصباح، لتضيئ مسار الحق والحقيقة، لمن أراد الخطو عليه واتخاذه نبراساً في حياته، وذخراً لما بعد حياته، وما كتبه عنها اصحاب الفكر والقلم، وأعدادهم جمّة صعبة الإحصاء، من شتى المشارب، الأديان والمذاهب، وسعوا للغور في محيط شخصيتها وما تتمتع به، بما امتلكوا من اذهان متوهجة وأفكار متدفقة، حيوية، ليصلوا ولو الى هامش صغير من هوامش سيرتها، وليفوزوا بالجواب الذي ينتظرونه، وهو: يا ترى من هي البتول الزهراء (س)؟.. ألا إنهم عادوا بخفي حنين! ولم يحصدوا غير الحسرة على ذلك! فكيف بهم، ولهم الحق، في معرفة ملك من ملائكة الله تعالى المقربين، بل وأكثر؟
واسمها بكامله يدل عليها، فعن النبي (ص): لو كان الحُسن شخصاً، لكان فاطمة (س)، بل هي أعظم، ان فاطمة ابنتي، هي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرامة (ملتقى البحرين للمرندي، ص14) .فهل هنالك قول أفضل وأصدق من كلام النبي (ص)، غير الله عز وجل في هذا الشأن؟
فمن أين يريد الإنسان، مهما بلغ من الإجتهاد والعلم، ان يبدأ بالحديث، عن شخصية لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية؟ وأي زاوية في التاريخ، منذ نشأته، لم تتعرض ولم تنطق بأحرف من عسجد، لها؟
وقد اجتمع المسلمون خاصة، بكافة مذاهبهم، وإن افترقوا في غيرها، على أن الزهراء (س) هي الفضلى، والشخصية العظمى، وهي اكليل الشرف الأعلى، على رأس كل امراة في العالمين، وفي الدارين، حيث «اجمع اهل الحق قاطبة، تبعا للنصوص المستفيضة المتكاثرة، على فضيلة البضعة الطاهرة، عليها افضل الصلاة وأزكى التحية، كما ذهب الى ذلك، أيضا، محققون من اهل السنة والجماعة، ومنهم من عمل فيه تأليفاً» (ككتاب «الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء (س)» للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين). فأهل الحق، اذن، مهما اختلفوا فيما بينهم باجتهادات هنا وهناك، لا يختلفون حول قطب الرحى وجوهرة الوجود، الزهراء (س)، وما يميز سيرتها وحياتها، إنها كانت حتى في الدعاء، تفضل غيرها على نفسها، «... الجار ثم الدار...» (رواية مشهورة، منقولة عن الزهراء (س)، توصي بها ولدها الامام الحسن (ع))، اي، استدرك من يحتاج اليك أولاً، وأكفه وكن عونا له، ثم نفسك بعد ذلك.
ان الأثر الذي تتركه السلوكيات المختلفة، على مسار الإنسان بشكل عام، وحياته الخاصة والعامة، قد يبقى معه الى اخر عمره، سواء كانت (السلوكيات) هدامة او هادية، والذي يتتبع حياة العظماء، اذا تمعن بنظرة فاحصة، ثاقبة، يرى ذلك بوضوح لا لبس فيه، وخاصة فيما يتعلق بانسان عظيم الشأن كفاطمة (س)، فقد كانت في سلوكها، حتى مع المناوئين لها، ذات اخلاق رفيعة، عالية كوالدها الرسول الاعظم (ص)، حينما وصفه القران الكريم بالقول: «وإنّك لعلى خلق عظيم» (القلم/4)، وهو الذي قال فيها مما قال، أخذ بيدها: «من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد (ص)، وهي بضعة مني، وهي قلبي وهي روحي التي بين جنبي، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد اذى الله» (دلائل الأمة، ص 228).
هكذا تكون العظمة، وهكذا يكون الشرف العلوي، الملكوتي، فهي كما اجمع علماء المسلمين قاطبة، واجبة الطاعة. عن ابي جعفر (ع) في حديث طويل: «... لقد كانت عليها السلام، مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله، من الجن والإنس، والطير والوحوش، والأنبياء والملائكة» (كفاية الطالب، ص 311).
ان العالم الاسلامي، اليوم، في أمس الحاجة، الى تعاليم البتول الزهراء (س)، واتخاذها سراجاً منيراً، ونبراس هداية، يضيئ الدرب لكل من يريد السير، على الصراط المستقيم، وما جاء به الدين القويم، لاسيما بعد ان احاطت شتى الفتن بالدول الاسلامية، ووقف لها الأعداء بالمرصاد، لتمزيقها وتفتيتها، وقد نجحوا في ذلك الى حد ما! وما خلاصهم ونجاتهم، الا باتباع خطوات الزهراء (س) والأئمة الاطهار (عليهم السلام)، فهم المعنيون بآية التطهير.
عن النبي (ص): «انزلت آية التطهير في خمسة، فيّ، وفي «علي» و «حسن» و «حسين» و «فاطمة» (صحيح مسلم، مؤسسة عز الدين، بيروت)، التي هي كما وصفها الرسول الأمجد (ص): سيدة اهل الجنة فاطمة (س) (سيرة اعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، تحقيق شعيب ارناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت)، ومهما نغور في اعماق محيط ما تضمه الزهراء (س)، وما تحتويه من درر يتيمة، لا نجني غير فقاعات تطفو على السطح! لأن ذلك بعيد المنال، لكل باحث وصاحب نظرية ورؤية!
وما هو متواجد من نصوص في الساحة الدولية، وعلى مر السنين والدهور، الا غرفة كف من محيط مترامي الاطراف! لعل الايام والأزمنة والأجيال القادمة، تتوصل الى شيء ما، يزيح الستار عن ملك من الملائكة الأجلاء، كان يمشي على الأرض ويساير الناس، ويختلط بهم وما عرفوا قدره!
في تفسير نور الثقلين والبرهان وبحار الانوار، نقلا عن تفسير فرات بن ابراهيم الكوفي، مسندا عن الامام الباقر (ع) في تفسير سورة القدر، قال: «ان فاطمة (س) هي ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة، لأن الخلق فطموا عن معرفتها. ما تكاملت النبوة لنبي حتى اقر بفضلها ومحبتها، فهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»... فأين نقف، نحن، من الطريق وما زلنا في مفترقه؟ وهل توصلنا، حقيقة، الى معرفة المسار الصحيح، الذي خطه الله تعالى لنا، وارشدنا اليه بانبيائه (ع) وأوليائه الصالحين، وعلى رأسهم، اشرفهم وأقربهم منزلة عند الله جل جلاله، محمد (ص) وعلي امير المؤمنين (ع) وفاطمة (س).
عن انس مرفوعا: «حسبك من نساء العالمين، مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امراة فرعون»؟ (مسند احمد، 3/135، سنن الترمذي، 5/703, المستدرك،3 / 157).
فأي كلام يليق بالبتول ( ع) في هذا المجال؟ وأي منطق لا يتلعثم، وهو يتطرق الى مناقبها وفضائلها الجمة؟.
في ذكرى انتقالها الى جوار الباري تعالى، وقد اخبرها بذلك الرسول الاكرم (ص) بقوله: « فاطمة، انت اول اهل بيتي لحوقا بي» (كشف الخفاء و مزيل الالباس، الشيخ اسماعيل العجلوني، مؤسسة الرسالة، بيروت)، حيث لم يطل اللحاق كثيرا.
قال امير المؤمنين (ع)، عند فراغه من ايداع الزهراء (س) التراب، محولاً وجهه الى مرقد رسول الله (ص): «السلام عليك يا رسول الله (ص)، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والبائنة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك» (امالي المفيد، 281/ 7 . امالي الطوسي، 166/109) .
في هذه الذكرى ما لنا ونحن نستذكر الرحيل الأليم، الا ان نرفع ايدينا الى الله المتعال، ونبتهل اليه، بأن يوفقنا في طريق الحق، وعلى خطى ام ابيها (س)، مرددين ما قاله علي امير المؤمنين (ع) على شفير القبر وجاء في (الكامل، المبرد، 4/ 30 . شرح ابن ابي الحديد، 10/ 288):
لكل اجتماع من خليلين فرقة
و كل الذي دون الفراق قليل
و ان افتقادي فاطما بعد احمد
دليل على ان لا يدوم خليل .
الوفاق