نورنيوز- منذ حوالي أسبوع انتهت أعمال الاجتماع الثاني من الجولة الجديدة للمفاوضات بين ايران ومجموعة 4+1 بهدف رفع الحظر الجائر عن الشعب الايراني.
نظرا لما توصلّت إليه فرق التفاوض في فيينا بشأن المسودات التي ستتم مناقشتها في المحادثات القادمة، فمن المرجح أن يعقد الاجتماع الثالث قبل بداية العام الجديد.
لكن وفيما تستعد عواصم أطراف الاتفاق لإرسال مفاوضيها الى فيينا لبحث إحياء الاتفاق النووي، تشير نظرة فاحصة على تطورات الاجتماعين السابقين الذي انعقد اولهما يوم الاثنين 29 نوفمبر الماضي، الى خطوات مقلقة تُظهر الجهود المشتركة للجانب الغربي من طاولة المفاوضات لقلب الحقيقة، وتحريف مسار القضية.
بناء على ذلك، ولتوضيح المسار الذي اجتازه طرفي المفاوضات مؤخراً، لايمكننا تجنّب إجراء قراءة فاحصة لمجريات الامور حتى الآن.
عقب انسحاب امريكا من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، أعطت أوروبا جرعة كبيرة من "الوعود الزائفة" كان الهدف الرئيسي منها هو دفع اقتصاد إيران وبرنامجها النووي نحو الانهيار.
في الحقيقة، ان السياسة التي كان ينتهجها الجانب الأوروبي من خلف الستار تتمثّل في تصيد الفرص، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية المتمثلة في ممارسة ضغط ساحق على الاقتصاد الإيراني والصناعة النووية، وبذريعة التستّر الموارب وراء تصرفات ترامب غير القانونية والمتطرفة.
وكان لفرنسا حصّة الاسد من هذه اللعبة، وكانت الرائدة في تنفيذها، وجاء هذا الدور الفرنسي في محاولة طفيلية لملئ الفراغ الذي سيخلّفه تقهقر الأمريكي من المنطقة، وفي ظلّ استراتيجية واشنطن الجديدة التي تقوم على تقليص تواجدها العسكري في غرب آسيا، والتركيز على استراتيجية احتواء الصين.
المثال الأبرز على الدور الفرنسي التطفلي، عندما سارعت باريس للتدخل في الأزمة اللبنانية في أعقاب تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، والذي سعت من خلاله إلى جمع المساعدات الدولية وإلقاء اللوم على حزب الله، والقيام بدور فعال في تشكيل الحكومة الجديدة.
تحركات عديدة تشير الى عزم فرنسا على التموضع مكان الامريكي المتراجع في المنطقة، حيث زار هذا العام ماكرون العراق قبل بضعة أشهر للمشاركة في قمّة أمنية في بغداد، وعبّد الطريق خلال الزيارة لصفقة نفط وغاز بقيمة 27 مليار دولار مع شركة توتال، كما اقتنص من الامارات صفقة أسلحة بقيمة 19 مليار دولار، إضافة الى مواصلة امداد السعودية بالسلاح والذي يعود على فرنسا بالمليارات.
علاوة على ما سلف، وفي ظل انسحاب خصم فرنسا ومنافسها الأكبر بريطانيا منذ فترة طويلة من الاتحاد الأوروبي، خلت الساحة لفرنسا، وشعر حكام الإليزيه أنهم يستطيعون تولي زمام القيادة في أوروبا، لبناء مزيد من التماسك في الاتحاد، ولعب دور مستقل في العلاقات العالمية.
فيما يتعلق بالدور المستقل لأوروبا تجاه امريكا في القضايا الدولية المهمة، لا سيما القضايا التي لا تصب في مصلحة أوروبا والولايات المتحدة، هي الساحة الأهم بالنسبة لفرنسا لإظهار تقلّدها زعامة الاتحاد الأوروبي والحصول على دعمه في هذا الامر.
على هذا النحو يعتبر الاتفاق النووي والجولة الجديدة من المحادثات بين إيران ومجموعة 4 + 1، نظراً إلى الحساسيات التي ولّدتها نتائج هذه المفاوضات لدول المنطقة، خصوصاً الكيان الصهيوني، تعدّ من أهم التحركات التي عبّدت الطريق لفرنسا للقيام بدور فاعل يثبت ما تحاول الوصول إليه من خلال إعطاء دور أكبر للاتحاد الاوروبي، إذ تمارس الضغوط على امريكا، وقامت باستقطاب بعض الدول العربية في المنطقة الى جانبها، واستفادت بالكامل من قدرات الكيان الصهيوني.
في الواقع، ماتريد فرنسا أن تثبته داخل الاتحاد الأوروبي أنه ليس فقط قدرات إيران النووية لم تتضاءل منذ الاتفاق النووي، إنما أيضا شهدت طهران تقدماً ونمواً سريعاً في إعادة بناء قدراتها بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، وبلغ التقدّم الايراني مراحل أفضل بكثير عن السابق، وغدا الآن تهديدًا نوويًا قريبًا من أوروبا.
تسليط الضوء على هذا الخط الإعلامي والدعائي الذي تطلقه فرنسا أمر مرغوب فيه تمامًا للكيان الصهيوني وبعض الدول العربية في المنطقة، لأنه يعزز سياستهم المعادية لإيران.
إضافة الى ذلك؛ ستوفّر فرنسا عبر هذا النسق الإعلامي النفسي، أرضية خصبة لزيادة تهديدات الكيان الصهيوني لإيران وإضفاء الشرعية عليها، فضلاً عن التواجد القوي في سوق السلاح لدول المنطقة، مما سيزيد بشكل كبير من اعتماد تلك الدول على فرنسا دون شك.
وتلوح في الأفق أيضا ميّزة أخرى لهذا النهج الفرنسي، تتمثّل في الشراكة الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني، والتي تكمّلها زيادة المشاركة الفرنسية في لبنان لصالح إسرائيل، وهو ما سيخلق مكانة مميزة لباريس للاستفادة من دعم اللوبي الصهيوني.
الجدير بالذكر؛ هو ان جميع المعطيات الاستخبارية والتحليلية تقريبا، العلنية منها والسرية، تؤكّد تبنّي فرنسا لهذا النهج في مفاوضات إيران ومجموعة 4 + 1.
على الجانب الآخر؛ استشعرت الصين وروسيا تمامًا دور فرنسا المدمر في المفاوضات النووية، دور غدا بطريقة ما هو سياسة الدول الأوروبية الثلاث في فيينا.
على الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى إلى الحفاظ على ضغط شامل على إيران في استراتيجيتها الكبرى، إلا أن هناك مؤشرات على أن إدارة بايدن في هذه المرحلة من المفاوضات بسبب الحاجة الملحة لتحقيق إنجاز في السياسة الخارجية، تعارض الى حدّ ما النهج الفرنسي الاوروبي المدمر في فيينا.
تسبب مضيّ فرنسا في هذا الاتجاه منذ بداية الجولة الجديدة من المفاوضات في 29 نوفمبر إلى إهدار شديد للوقت وتآكل المفاوضات وبعثرة أوراقها، الأمر الذي سيكون له بالتأكيد تداعيات سلبية على المفاوضات وسيعرقل تقدّمها.
يؤكد السلوك الفرنسي حتى الآن حقيقة أن باريس قد تجاوزت دور "الشرطي السيئ في الملعب الغربي" (الولايات المتحدة وأوروبا) وتسعى إلى خلق ساحة لعب جديدة يتم من خلالها حدثان غير بناءين، بما في ذلك "الفشل الكامل للمفاوضات، أو "فرض اتفاق 2021 على إيران" ليتم تحقيقه.
من الواضح جدًا أن كلا البيانين أعلاه غير مرغوب فيهما بالنسبة لإيران ولن يتآلفا مع سياستها ولن يصبا في مصلحتها.
لا تريد روسيا والصين وربما أمريكا أيضًا فشل المحادثات، لذا فإن استمرار فرنسا في هذا المسار، على الرغم من التقدم النسبي للمحادثات حتى الآن، قد يكون محفوفًا بالكثير من التحديات الهشة.
في الحقيقة، غدت طاولة مفاوضات فيينا عملياً "ساحة تنافس إستراتيجية بين القوى العالمية والإقليمية"، وممر ناجح عبر هذه الساحة، نظراً للفرص والتهديدات الهامة جداً التي ترتبط بها، وتتطلب المزيد من اللباقة والذكاء والتماسك والجدية من قبل جميع الأطراف المعنية بالتوصل الى اتفاق جيّد وبنّاء.
نورنيوز