قبل أشهرٍ فقط، كان الإسرائيليون وبعض حلفائهم المطبِّعين الجدد يحتفلون "بسلام أبراهام" اعتِقاداً أنّ القضية الفِلسطينية ماتت، وشعبها استسلم، ورفع الرّايات البيضاء، وأنّها، أي دولة الاحتِلال، ستكون البديل لحِماية هؤلاء المطَبِّعين، وها هِي الصّواريخ الفِلسطينية "المباركة" تفضح سوء تقديرهم، وفشلهم المزدوج العسكري والاستِخباري، وتدفع أكثر من ستّة ملايين مستوطن يهودي للعيش في المَلاجِئ، وعلى رأسِهم نِتنياهو وأعضاء حكومته الأمنية الموسّعة.
"إسرائيل" كانت تقاتِل وتَقتل، وهي مطمئنّة بأنّ يدها هي العليا، وأنّه لن يكون هناك أي يد فوقها، لأنّ صواريخ المقاومة "عبثية" أو "مواسير" لا يزيد مَداها عن كيلومتر واحد وبِلا رؤوسٍ متفَجِّرة في أفضلِ الأحوال، وها هي الصّواريخ تَصِل إلى كلّ بقعةٍ في فِلسطين المحتلّة، وتَقلِب كل معادلات القوّة والرّدع، وسبحان مغَير الأحوال.
معقول أنّه بعد 73 سنة لا تملك "إسرائيل" مطاراً آمِناً، لأوّل مرّة منذ قِيامها، وكل طائرات المطبِّعين لا تَجِد مهبطاً، ولا يجِد سفراؤها مفَرّاً للهرب من صواريخ المقاومة للنّجاة بحياتهم والعودة إلى بلادهم.
نتابِع الاعلام الإسرائيلي يومياً، والنّغمة الطّاغية هذه الأيام تؤكد أنّ الحلم الصّهيوني انهار، وأنّ الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزَم انهزم، وأنّ حِلف المقاومة الذي تقوده حركة "حماس" ممثّلةً بزعيم جناحها العسكري محمد الضيف ومقاتليه انتصر، بعد أقل من ستّة أيام فقط من بَدء المعارك، ومستَعِدٌّ لمواصلة الحرب، وإطلاق الصّواريخ لستّة أشهر، وهناك توقّعات عسكرية تفيد بأنّ صواريخ "القبب الحديدية" قد تنفذ قبل صواريخ المقاومة بكثير، وهذا ما يفَسِّر هرولة الإدارة الأمريكية إلى القاهرة والدّوحة استِجداءً لوقف إطلاق النّار بأسرعِ وَقتٍ ممكن.
إسرائيل تقاتِل اليوم على ثلاث جبَهات فِلسطينية في الوقتِ نفسه، الأولى في المناطق المحتلّة عام 1948، والثّانية في الضفّة الغربية، والثّالثة في قِطاع غزّة، وهذه الجبَهات ستظل ساخنة، بل ملتهبة، حتّى لو جرى التَّوصّل إلى اتّفاقٍ لوقف إطلاق النّار، فانتِفاضة الحجر المقدّس الأولى عام 1987 استمرّت ثلاثة أعوام، والثّانية أربعة، والثّالثة ربّما أكثر، لأنّ المارد الفِلسطيني خرج من القمْقم ولن يعود إليه إلا بعد تحقيق النّصر بإذن الله.
الاتّصالات تتم مع المقاومين الذين يقِفون في خندق المقاومة، ويؤمنون أنّ الصّواريخ العبثية هي اللّغة الوحيدة للتّعاطي مع الاحتِلال، وليس المفاوضات والتّنسيق الأمني وحِماية المستوطنين وتسليم المناضلين الشّرفاء منفّذي العمليات إلى مخابرات الاحتِلال.
محور المقاومة الذي تقوده "حماس" بات الدّاعم والحامِي للشّعب الفِلسطيني، ومقدّساته وأقصاه، وكنائسه، وباتت المؤسّستين العسكرية والأمنية الإسرائيلية وهي تَغط في نَومِ التّفوّق الكاذب الذي تجاوزه زمَن المعادلات الصّاروخية الجديدة، والفشَل الاستِخباري الأضخم في تاريخ دولة كانت تتاجِر بقدراتها الأمنية والعسكرية في العالمِ بأسْرِه.
هذا المحور وفصائله بات يؤَسِّس لمِصداقية جديدة عنوانها الرّئيسي إنّه إذا قالَ فعَل، وإذا هدّد نفّذ، وحقّق نجاحاً غير مسبوق، في معركة الوَعي، والحرب النفسية والميدانية، فأهلنا في الضفّة الغربية يرقصون الدّبكة فرحاً فوق كل حفرة صاروخ يهبِط في القدس المحتلّة.
وها هو حِلف "حماس" المقاوم يستعيدها بالصّواريخ، ويوَظِّفها بجَدارةٍ لحِماية الأقصى، واستِعادة الأمّة وكرامتها، ويملك الإرادة والجرأة لخَوض الحروب، وهذه هي القاعدة الذهبية الجديدة السّائدة حالياً، ويلتف حولها الشّعب الفِلسطيني والأمّتين العربية والإسلامية أيضاً.
فليدمِّروا ما شاءوا من الأبراج في غزّة الصّامدة في ذروة هزيمتهم وفقدانهم لعقولهم، فالحجر سيعَوَّض والأبراج ستعانِق السّماء مجَدَّداً، لكن ما سيصعب تعويضه وإعادة بنائه، هو انهِيار الحلم الصّهيوني، والتّفوّق العسكري، والعيش في أمن واستِقرار على أرضٍ مغتَصبَةٍ.. اسْمها فِلسطين.. كلّ فِلسطين.. والأيام بيننا.
بقلم: عبد الباري عطوان
نورنيوز-وكالات