نورنيوز- "عودة المجرم الى مسرح الجريمة" سلوكٌ أجمعت عليه كافة القضايا الجنائية، وهذا تفسير أبرز ما حدث خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت أمس الخميس بعد الانفجار الدامي في مرفأ العاصمة.
ربما يظنّ ماكرون أن لبنان مازال مستعمرة فرنسية. فبينما لم يتمكّن بعد مرور عدّة أشهر من احتجاجات أسبوعية عمّت أرجاء فرنسا من تقديم جواب مقنع يُرضي المتظاهرين الغاضبين من سوء إدارته لأزمة البلاد الاقتصادية والفساد المستشري في الحكومة، توجّه الى بيروت رافعاً عن أكمامه واقترح تقديم مساعدات دولية للبنان شريطة أن تُنفذ اصلاحات سياسية.
ومن خلال تحديد موعد نهائي للسياسيين اللبنانيين حتى الأول من سبتمبر القادم، ادعى الرئيس الفرنسي بكل وقاحة أنه سيتحمل شخصيا المسؤولية السياسية عن تنفيذ الإصلاحات إذا لم تحدُث من قبل الحكومة!
هل يعتقد الرئيس الفرنسي الذي يفتقد للشعبية لدى غالبية الفرنسيين بسبب الضغوط الاقتصادية المتراكمة التي تعاني منها حكومته والناتجة عن سوء الإدارة، وما تمخّض عنها من احتجاجات استمرت لعدة أشهر في جميع أنحاء فرنسا، أنه بطيّ أكمام قميصه سيلعب دورا سياسياً مؤثراً ومدعوما على الساحة اللبنانية؟َ!
للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعود قليلاً، وعلى وجه التحديد لـ "أبريل" عام 2017، عندما كان اللبنانيون يستعدون لانتخابات نيابية بعد توقف دام أربع سنوات.
في ذلك الوقت ، كان لبنان يعاني من مشاكل اقتصادية جمّة، وكانت حكومته على وشك الإفلاس بديون تبلغ 100 مليار دولار. كان سعد الحريري (رئيس الوزراء اللبناني آنذاك) يعقد مؤتمراً دولياً يحمل مسمى «مؤتمر سيدر» استضافته فرنسا لطلب المساعدة الدولية للتغلب على الأزمة.
وخاطب الحريري في المؤتمر حينها الناخبين اللبنانيين قائلا: إن تصويتكم في الانتخابات المقبلة سيساهم بشكل مباشر في صرف التعهد المالي الدولي الذي تم التعهد به في المؤتمر، بما في ذلك 11.8 مليار دولار من المساعدات وإلغاء جزئي للديون التي أثقلت كاهل لبنان.
وتبعاً لذلك، تعهدت فرنسا بتقديم 150 مليون يورو كمساعدة للبنان بالإضافة إلى قرض بقيمة 400 مليون يورو، وكانت مساهمات الدول الأخرى والمؤسسات المالية الدولية على النحو التالي:
- قدم البنك الدولي للبنان قرض بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي سيتم تقديمه على مدى 5 سنوات وذلك لتمويل مشاريع استثمارية في لبنان.
-قدم بنك الاستثمار الأوروبي قرضا بقيمة 800 مليون يورو، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية قدم قرضا بقيمة 1.1 مليار يورو لمدى 6 سنوات.
- البنك الإسلامي للتنمية كانت له حصة من خلال 750 مليون دولار سيتم تقديمها على مدى 5 سنوات. بالإضافة الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية منح لبنان قرضا بقيمة 500 مليون دولار.
-أما حصة الدول الغربية فكانت كالتالي: فرنسا 500 مليون يورو بينها هبات عينية، بريطانيا 130 مليون يورو، الاتحاد الأوروبي 1.5 مليار يورو، إيطاليا 120 مليون يورو، تركيا 200 مليون دولار، بالإضافة إلى هولندا التي قدمت 300 مليون يورو وألمانيا 120 مليون يورو.
- كما كانت حصة أمريكا من القروض حوالي 115 مليون دولار أمريكي.
- أما عربيا فقد منحت السعودية قرض بقيمة مليار دولار أمريكي، الكويت منحت قرضا بقيمة 680 مليون دولار أمريكي على مدى 5 سنوات، قطر قدمت للبنان 500 مليون دولار أمريكي.
هذه القائمة الطويلة من الوعود كانت منوطة بمن سينتخبه اللبنانيين. هذه الوعود، إلى جانب تنفيذ المخطط الفاسد بشراء الأصوات خلال الانتخابات، والذي كلف السعوديين ملايين الدولارات، كانت عملية معقدة تهدف إلى الضغط على اللبنانيين وقيادتهم لإرغامهم على التوجه إلى المسار السياسي الغربي.
ورغم كل هذه الوعود التي كانت تهدف لشراء أصوات الناخبين؛ إلاّ أن الشعب اللبناني اتخذ خياره، وأدت نتيجة هذه الانتخابات إلى انتصار ساحق للفئات السياسية المتضامنة مع محور المقاومة، وبعد إعلان نتائج الانتخابات توعّدت التيارات والجماعات الراكعة للمحور الغربي والعبراني وبعذ اذيالهم من الدول العربية علناً أن الشعب سيدفع الثمن على موقفه هذا.
بعد تشكيل البرلمان والحكومة الجديدين، لم يقتصر الأمر على بقاء هذه الوعود المالية على الورق، بل بدأت عقوبات مصرفية شاملة بذريعة تجميد نشاطات حزب الله المالية، وبالطبع بهدف ممارسة أقصى قدر من الضغط على اقتصاد لبنان الهش وتدمير سبل عيشه.
علاوة على تصاعد الضغوطات، انقلبت العملية الانتخابية الفاشلة هذه المرة رأساً على عقب، متهمة الحكومة بعدم الكفاءة والفساد من خلال استغلال الاحتجاجات الشعبية على فساد السياسيين الذين أغرقوا اقتصاد البلاد في حالة خراب على مدى 30 عامًا. وبتحريض من بعض المغرّر بهم اشتعلت أعمال شغب وأغلقت شوارع بيروت والطرق الرئيسية في هذا البلد لعدة أسابيع.
لكن واقع الاحتجاج الشعبي كان فساد السياسيين الذين حكموا لبنان بعد الحرب الأهلية، من نفس التيارات الفاسدة التي انقطعت الآن عن السياسة بعد تولي الحكومة الجديدة السلطة وحاولت تنفيذ مخططها بتحميل الحكومة الجديدة مسؤولية الانهيار الاقتصادي وقادت الاحتجاجات نحو استقالة الحكومة واجراء انتخابات مبكرة.
استقال سعد الحريري ظاهريا من منطلق تعاطفه مع الشعب، لكنه استقال عمليا كرئيس للوزراء هربا من المساءلة لتمهيد الطريق لإكمال اللغز "المتمثّل بحل البرلمان". إلاّ أن أحلام الحريري لم تتحقّق بفضل حنكة البرلمان وانتُخب بعدها رئيس الوزراء الجديد على الفور.
ولبنان البلد الذي خسر نصف عاصمته نتيجة الانفجار المهول الذي وقع في المرفأ وتسبب في سقوط عشرات القتلى وعدة آلاف من الجرحى، يواجه اليوم وضعاً صعباً وحرجاً.
وهنا يأتي دور ماكرون، إذ اشترط لتقديم المساعدة الدولية إجراء حزمة من الإصلاحات السياسية، قائلاً إنه لن يسمح للفاسدين بالحصول على هذه المساعدات. وتستهدف الإصلاحات إخراج حزب الله من دائرة لعبة الشطرنج السياسية في لبنان ونزع سلاح المقاومة.
وتنتشر شائعات عن تشكيل فريق تحقيق دولي للبحث في سبب حدوث تفجير مرفأ بيروت، وهو فريق تحقيق مماثل تشكل قبل 15 عاما بعد اغتيال رفيق الحريري الذي من المقرر أن تبدأ محاكمته اليوم، ولا يزال اثنان من المتهمين على قيد الحياة. وتستند وثائقها على شهادة شهود الزور والتنصت على المتهم. شبكة الهاتف التي أُدينت باستخدام أجهزة تجسس صُنعت في الكيان الصهيوني وهرب مديرها بعد فضح أمره إلى إسرائيل!
الآن ما هو اللغز التالي لهذا السيناريو؟ سؤال رغم وضوح جوابه، إلاّ أن تطورات الأسابيع القادمة ستكشف أبعاده.
سيتخذ السيد حسن نصر الله الليلة موقفاً سيكون بالتأكيد خطاباً تاريخياً يمكن أن يمهد الطريق للإجابة على العديد من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها ويحدد استراتيجية المقاومة في الظروف الراهنة التي يمرّ بها لبنان.
نورنيوز