ورغم كون الولايات المتحدة تأتي على رأس العالم المتقدم إلا أنه يوجد بها ملايين الأشخاص من دون تأمين صحي، لأن أسعاره مكلفة للغاية. كما أن أسعار الأدوية والتحاليل الطبية مكلفة جدا، مما يدفع الأمريكيين إلى تجنب مراجعة الطبيب، إلا في حالة الطوارئ الشديدة. آنذاك، يُلزم القانون المستشفيات باستقبال المرضى حتى لو كانوا لا يمتلكون تأمينا صحيا. لكن حتى هذا الإجراء ليس بالمجان، إذ يضطر المريض إلى تسديد فواتير زيارة المستشفى بالتقسيط، وهنا يقول ستيفنز: "يسأل البعض، ما هو دور الدولة في هذا النظام؟ أو لماذا لا تتدخل الدولة لإصلاح الأعطاب الصحية في منظومة متوحشة وغير عادلة. هناك سببان: أولا، الدولة في النموذج الرأسمالي الأمريكي لا توفر الرعاية الصحية كما تفعل البلدان الإسكندنافية أو سنغافورة، التي تتعامل مع المواطنين مثل الأم مع أبنائها. ثانيا، اللوبيات جزء من النظام السياسي الأمريكي. واليوم، تمتلك شركات الأدوية واحدا من أقوى اللوبيات في واشنطن".
ويرى غريغوري ستيفنز أن انسحاب الدولة من القطاع الصحي "نتج عنه نظام فوضوي يهدد اليوم صحة ملايين الأمريكيين، فهناك حوالي 10% من الأمريكيين بلا تأمين، كما أن أسعاره جد مكلفة للطبقات المتوسطة والفقيرة. والأسوأ من كل ذلك، هو أن التأمين الصحي لا يغطي كل الأمراض، لأن الشركات تمنح التغطية الصحية على الأمراض العادية والموسمية مثل الأنفلونزا، لكن الأمراض المعقدة مثل السرطانات لا يغطيها التأمين، مما يتطلب دفع تكاليف إضافية من أجل العلاج".
وتعد أسعار الأدوية مشكلة أخرى تنخر المنظومة الصحية في أمريكا، إذ تقوم الشركات المنتجة بمضاعفة أثمانها سنويا، مما اضطر البعض إلى السفر إلى دول أخرى لاقتناء الأدوية" كما أوضح ستيفنز، وهو ما يجري منذ يوليو 2019، إذ تأسست مجموعة أطلقت على نفسها اسم "قافلة الأنسولين إلى كندا" وتقوم برحلات يومية من مدينة منيابوليس في ولاية مينيسوتا إلى إقليم أونتاريو الكندي لشراء عقار الأنسولين لعلاج مرض السكري. وبلغ سعر قنينة الأنسولين بالولايات المتحدة 340 دولارا، بينما يباع في كندا بأقل من 36 دولارا، حسب رئيسة منظمة "تي.1 انترناشونال غير الربحية والتي تساعد الطبقات الفقيرة لشراء الإنسولين، إليزابيت فيستر.
أمريكا "تمتلك واحدا من أسوأ النظم الصحية"
يؤكد الخبير الأمريكي في إصلاح الرعاية الصحية وأستاذ أستاذ الطب الوقائي بجامعة كاليفورنيا، الدكتور مايكل كوزينو، أن الولايات المتحدة "تمتلك واحدا من أسوأ النظم الصحية بين الاقتصادات المتقدمة، لأن ما يزيد عن 28 مليون شخص يعيشون بلا تأمين صحي حسب إحصاء عام 2018 والكثير من الأمريكيين يحملون ديونا طبية بملايين الدولارات. ويموت المئات سنويا بسبب أمراض يمكن الوقاية منها. وأكبر مشكلة على الإطلاق هي ارتفاع تكاليف العلاج، فالدراسات تظهر أن الأمريكيين يتجنبون الحصول على الرعاية التي يحتاجون إليها، بما في ذلك الحالات الخطيرة، مثل سرطان الثدي، بسبب عوائق التكلفة.
كل هذه نقاط ضعف تسيء لدولة غنية تمتلك أكبر اقتصاد في العالم"، مشيرا إلى أن الملايين الذين لا يتوفرون على تأمين صحي "يتجنبون الذهاب إلى المستشفيات عندما يحتاجون إلى اختبار أو علاج. وعندما تتفشّى الأوبئة مثل كورونا، فإن هذه الشريحة هي التي تنقل الفيروسات بسرعة شديدة بدون علم السلطات الصحية. وهذا ما حدث".
ويوضح أنه عندما تكون التغطية الصحية متاحة للجميع، فإن الفئات الفقيرة والمهمشة، مثل المهاجرين غير الشرعيين على سبيل المثال، يذهبون لتلقي العلاج في المستشفيات بالمجان. وهذه السياسة الصحية مفيدة للمجتمع في أوقات الأزمات، إذ تسهل السيطرة على الأوبئة عندما يكون الجميع قادرا على الوصول للعلاج. وتابع "هذا لم يحصل في أمريكا. الفئات الفقيرة والمهمشة تحولت إلى نقاط ساخنة لنقل الفيروسات لأنها غير مؤمّنة وغير قادرة على دفع مئات الدولارات للمستشفيات مقابل العلاج".
ويتفق ستان هيوستن، أخصائي الأوبئة والأمراض المعدية والبرفسور في جامعة ألبرتا الكندية، مع ما يقوله الدكتور مايكل كوزينو، إذ يؤكد أن "كندا استطاعت التغلب على فيروس كورونا، لأن الرعاية الصحية مجانية للجميع. التغطية الشاملة على النموذج الكندي (ما يسمى 'الرعاية الصحية أحادية الدافع') يمنح الحكومة الكندية سلطات تنسيقية يفتقر إليها نظرائهم الأمريكيون، فحينما تتحكم الحكومة في نظام الدفع مقابل خدمات الرعاية الصحية، بدلاً من ترك القرارات للمستشفيات وشركات التأمين، فإنها تتمتع بقدر كبير من السلطة لقيادة النظام الصحي في أوقات الأزمات".
ويضيف "في كندا مثلا، عندما يعاني أحد المستشفيات من ارتفاع في الحالات ويحتاج إلى شحنة طارئة من معدات الوقاية، تستطيع الحكومة التدخل والعمل على نقلها من مستشفى أقل احتياجا. هذا لا يحدث في أمريكا، لأن المستشفيات تتنافس فيما بينها من أجل جني المال، ومن مصلحتها عدم مساعدة مستشفيات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لا تستطيع الحكومة إجبار هذه المستشفيات على القيام بأي شيء في هذا المجال. وفي حالة الأوبئة، تكون الحكومة غير قادرة على تنسيق الجهود العلاجية للرد بسرعة على تفشي الوباء".
وبالإضافة إلى تنسيق الجهود للتصدي للوباء، فإن نظام الرعاية الشاملة لديه ميزة أخرى في وقت الأزمات وهو سرعة إجراء الاختبارات وحجر المصابين لتطويق الوباء، بحسب هيوستن. وعلى سبيل المثال، فإن تايوان، التي تعتمد هذا النظام، "استطاعت التغلب على تفشي فيروس كورونا بسرعة، رغم أن ملايين المواطنين من تايوان يزورون الصين شهريا إلا أن عدد الوفيات الإجمالية بالفيروس لم تتجاوز سبع حالات (حتى 7 يوليو). وكل مواطن لديه سجلات طبية رقمية في نظام موحد (غير مشتت بين الشركات الخاصة على الطريقة الأمريكية). وخلال أزمة كورونا، أضافت البلاد سجلات السفر إلى هذا الملف الطبي عبر الإنترنت، بحيث يمكن لكل طبيب التحقق مما إذا كان المريض قد زار منطقة متأثرة بالفيروس"، كما يقول هيوستن.
قلة الأطباء و التكلفة المرتفعة للتعليم الطبي
"وعندما اندلعت أزمة كورونا كانت أمريكا تمتلك أقل من 160 ألف جهاز للتنفس الاصطناعي، وعدد الأسرّة والأطباء لكل ألف شخص أقل من المعدلات في إيطاليا وكوريا الجنوبية، بحسب تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وفي الولايات المتحدّة 2.8 سرير لكل ألف شخص، و2.6 طبيب لكل 1000 شخص، “وهو معدل قليل جدا مقارنة مع بلدان غنية أخرى"، كما يقول ستيفنز. ويشير إلى أن "السبب في قلة الأطباء هو التكلفة المرتفعة للتعليم الطبي في الولايات المتحدة، وعدد الأسرة قليل لأن عدد الأشخاص المؤمّنين قليل أيضا".
ويتفاقم هذا النقص، بحسب ستيفنز، بحقيقة مؤلمة أخرى وهي أن الولايات المتحدة لديها معدلات أعلى من دخول المستشفيات بسبب الأمراض المزمنة التي تشمل قصور القلب الاحتقاني والسكري والربو، وهي أمراض يمكن الوقاية منها بالرعاية الروتينية في أوقات مبكرة، لكن الأمريكيين يفشلون في زيارة الأطباء عندما تظهر عليهم أعراض المرض بسبب التكاليف المرتفعة لزيارة الطبيب. ونتيجة هذا المشكل هو ازدحام المستشفيات الأمريكية بالآلاف من الأشخاص المصابين بأمراض السكري والربو خلال أزمة فيروس كورونا. ويضيف "مستشفياتنا تستقبل مرضى كان يمكن علاجهم في أوقات مبكرة لو كان النظام الصحي يعمل بشكل أفضل، والآن يتعين على هذه المستشفيات استيعاب تدفق هائل للمرضى من شتى الأنواع، وليس الحاملين لوباء كورونا فقط".
نورنيوز - وكالات