نورنيوز- لم يبق سوى أسبوع واحد على انتهاء الحرب الدموية التي تخوضها إسرائيل مع أهل غزة منذ ستة أشهر، أشهر كانت من أكثر الفترات مرارة في تاريخ العالم الحديث بأكمله، وشهدت سلسلة جديدة من المجازر بحق المدنيين. وما حدث خلال هذه الأشهر الستة هو تهجير ما يقارب مليوني مواطن فلسطيني، ومذبحة أكثر من 32 ألف شخص، وإصابة 100 ألف من شعب قطاع غزة الأعزل، عدد كبير من هذه الأعداد الرهيبة هم من النساء والأطفال والشيوخ. وبهذا نستطيع استخدام مصطلح "المأساة الإنسانية" لتسمية ما يحدث في غزة.
واليوم بات يدرك المجتمع الدولي الأبعاد الرهيبة لهذه المأساة جيدا، وعلى الرغم من رغبة السياسيين الباحثين عن الحرب والمناهضين للحقيقة، فإن شوارع أكبر المدن في العالم، من أقصى شرق آسيا إلى الشواطئ الغربية لأوروبا، ومن أقصى شمال مدن أمريكا الكبرى إلى جنوبها، تحولت إلى ساحات تصور مشاهد من الإثارة والحماس للتعاطف مع المظلومين في غزة وإدانة المغتصبين الصهاينة المتوحشين.
*وسائل الإعلام، الرافعة الثانية للحرب
هذا التعاطف والحوار الإنساني كان نتيجة للتنوير الإعلامي على مختلف المستويات. لقد عملت وسائل الإعلام إلى جانب معاناة النازحين والمضطهدين بشكل فعال في نقل رواية مأساة غزة. في الواقع، كانت الجبهة الثانية لهذه الحرب هي الساحة الإعلامية. ورغم أن بعض "الإعلام الفائق" في المنافسة الإخبارية لجأ إلى أعقد الحيل وتقنيات الاتصال لتغيير مكانة الظالم والمظلوم، إلا أن مجريات الواقع على الأرض في جميع أنحاء العالم أظهرت مايغاير ذلك، فلا مزيد من "التلاعب" في الواقع، و"هندسة الرأي العام" ليس مشروعاً سهلاً. مواطنون بلا زي رسمي وهواة، بكاميراتهم المحمولة غير الاحترافية، شكلوا فوجاً من جنود الحرب الإعلامية القادرين على تغيير مصير الميدان. وبالإضافة إلى "الإعلاميين" الذين لعبوا دوراً لا مثيل له في نقل الحقيقة، هزمت "وسائل الإعلام النخبوية" مثل الجزيرة والميادين منافسيها في حرب الروايات، وقدمت للعالم صوراً وثائقية عن ساحة المعركة بأكملها. وكانت حصيلة هذه الحرب الإعلامية بالطبع استشهاد 136 صحافياً وناشطاً إعلامياً من مختلف القواعد الإعلامية.
التوتر والصراع والحرب هي الشغل الشاغل لوسائل الإعلام! ومن المعروف بين أهل الأخبار أن الصراع هو "الأدرينالين" الإعلامي الذي يرفع الإثارة والنبض؛ وكلما ارتفع مستوى الصراع والمعارك، ارتفعت العواطف. ولهذا الفضل فإن وسائل الإعلام الرسمية لديها اهتمام مهني بروح الحرب والصراع والتوتر. إذ تجعل وسائل الإعلام الحرب وسيلة ترفيه وفي قلب هذا الترفيه تتضمن "الرسائل" المرغوبة وتلهم الجمهور.
ومن ناحية أخرى، فإن الحرب وظروف الحرب لا تزيد من "عرض" الأخبار فحسب، بل تزيد أيضا من "الطلب" على الأخبار. لقد قيل أن حرب الخليج الفارسي زادت جمهور سي إن إن بمقدار 10 مرات. بالنظر إلى هاتين الحقيقتين المهمتين، بمجرد أن اشتعلت نار الحرب في غزة، أوقفت جميع وسائل الإعلام عجلاتها للعثور على أفضل مكان لتجميع روايتها في هذا المجال الرفيع المستوى.
الصراع بين "رجال الإعلام" و"الوسائط الفائقة"
وبطبيعة الحال، قدمت وسائل الإعلام تحت تأثير الصهيونية حزمها الإخبارية وتحليلاتها لمقتل أهل غزة في شكل تمثيل "الحرب على الإرهاب"، لكن هذه الوسائل لم تترك مكانا لـ "رجال الإعلام" "في حساباتها. واستحوذت الكثير من الأخبار وبيانات الفيديو الشائعة وغير المهنية على الشبكات الاجتماعية والفضاء الافتراضي وأفقدت مصداقية تمثيلات الوسائط التشعبية المؤيدة لإسرائيل. ولم تتمكن وسائل الإعلام الكبرى مثل الجزيرة والميادين وحتى "سي إن إن" وفي بعض الحالات "بي بي سي" من استخدام سعة هذه البيانات الإخبارية.
وكانت نتيجة هذه المطاردة الإعلامية وعي مواطني العالم بحقائق حرب غزة والعنف الدموي الذي تمارسه قوات الاحتلال الصهيوني. صحيح أنه خلال العداون الذي استمر ستة أشهر على غزة، جاءت "الرواية الأولى" من قناة الجزيرة، لكن تجدر الإشارة إلى أن القوات الفلسطينية الداعمة لحماس كانت ناجحة للغاية في تنظيم وجمع بيانات الأخبار والفيديو من غزة. واستطاعوا نشرها مباشرة على شبكات التواصل الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى، عبر إرسال هذه البيانات إلى وسائل الإعلام الكبرى مثل الجزيرة والميادين وبعض وكالات الأنباء الأخرى، يزودونها بشكل غير مباشر بوثائق تغذي الأخبار وتثير مصداقيتها. ويُحسب أن بطل الحرب الإعلامية في غزة، حتى الآن، هم الإعلاميون الذين ظلوا يقولون الحقيقة إما بشكل مباشر أو عن طريق تغذية وسائل الإعلام الكبرى.
الحنكة الفلسطينية في الإستراتيجية الإعلامية
لقد تمكنت استراتيجية فلسطينية ذكية من توظيف "تكنولوجيا الإعلام" كمنتج غربي لإيصال الوقائع على الأرض. وربما كانت في أذهان المبدعين الأوروبيين والأمريكيين لهذه التكنولوجيا فكرة أنه من خلال اختراع مثل هذه الحيل والمهارات، يمكنهم مواصلة هيمنتهم الاقتصادية والسياسية هذه المرة على مستوى عقول مواطني الدول الأخرى. وفي حربها الإعلامية، استغلت حماس نفس التكنولوجيا وصادرتها لمصلحتها واستخدمتها لصالح أهل غزة بالهندسة العكسية.
والنقطة المهمة الأخرى هي أن حماس ومخططيها الإعلاميين جروا الحرب إلى ما وراء الجبهة الأمامية وأثاروا الرأي العام العالمي، وخاصة الدول الداعمة للكيان الصهيوني. منذ عدة أشهر، وفي ظل هذه الاستراتيجية، أصبحت المدن الكبرى في البلدان التي تعتبر تقليدياً داعماً استراتيجياً لتل أبيب مسرحاً لمظاهرات حماسية ضد سياسات دعم هذه الدول لإسرائيل. ويبدو أن حماس تمكنت بهذه الاستراتيجية الذكية من حفر أحد أنفاقها الأقوى والأكثر سوخاً في العالم العقلي لشعوب العالم، وإيصال صورة العنف الصهيوني الوحشي إلى الرأي العام العالمي عبر هذه الأنفاق الافتراضية.
نورنيوز