بعد مضي 16 شهرا من بدء المفاوضات الرامية الى رفع الحظر عن ايران وتهيئة ظروف عودة اميركا الى الالتزام بالاتفاق النووي يمكن القول بان الجميع قد ادركوا بان ادارة بايدن تفتقد الى وجود ارادة جادة للعودة الى تنفيذ الاتفاق النووي بالكامل.
ولا ينفك الاميركيون والغربيون عن المحاولة المستمرة لالقاء اللوم على ايران والتنصل عن المسؤولية واظهار ايران وكانها هي التي يجب ان تتخذ القرار للعودة الى الاتفاق النووي، طوال هذه الجولات الجديدة من المفاوضات، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، يمكن الاشارة الى ما قاله مساعد المندوبة الاميريكية في الامم المتحدة خلال الاسبوع الحالي بأن "كرة اتخاذ القرار بشأن العودة للاتفاق النووي هي الان في ملعب ايران".
اما فلسفة عدم الالتزام الاميركي بالاتفاق النووي هي فلسفة متجذرة ومشتركة بين الادارات الاميركية المختلفة، فقد قال الرئيس الاميركي باراك اوباما حين ابرام الاتفاق النووي في عام 2015 امام منتقديه، ان هذا الاتفاق مبني على "منطق النفوذ" في داخل هيكلية اتخاذ القرار في داخل ايران وهذا الاتفاق ليس فقط لايؤدي الى انتفاع ايران الاقتصادي منه بل يتضمن آليات في داخله لمنع ذلك.
وشرح اوباما فكرته زاعما ان السياسيين الايرانيين الذين يميلون نحو الغرب سيستفيدون من الاتفاق النووي وسيمهدون الارضية لاتفاقيات آتية في السنين القادمة للحد من باقي مكونات القوة الايرانية، وكان يضيف اوباما انه سيعمل عبر تنفيذ سياسات اخرى ايضا على حفظ هيكلية العقوبات لمنع دخول اموال طائلة الى ايران يمكن ان يزيد من القوة الاقليمية والصاروخية لايران.
واضافة الى هذه السياسات المعلنة عمد ساسة البيت الابيض ايضا نحو حفظ هواجس الحظر فوق رؤوس البنوك الدولية ورفع تكلفة المجازفة السياسية والاقتصادية للتعامل مع ايران عبر اطلاق تصريحات رسمية وهجمات اعلامية وضغوطات غير رسمية والربط بين الانتفاع الاقتصادي لايران من الاتفاق النووي وقيامها بخطوات تتعدى الاتفاق النووي وسن قوانين لمنع زيارات التجار الى ايران والاحتفاظ بالضبابية حول بقاء الاتفاق النووي من عدمه، وكل ذلك لمنع انتفاع ايران الاقتصادي منه.
وبمفهوم آخر عمدت ادارة اوباما الى ضمان استمرار استراتيجيتها تجاه ايران من بوابة الاتفاق النووي واتبعت نمطا خاصا لرفع الحظر يتم خلاله الغاء الحظر على الورق ولكن في الحقيقة كانت اميركا تستخدم باقي ادواتها القانونية والسياسية للضغط على ايران لتطمئن بان ايران سوف لن تنتفع اقتصاديا من هذا الاتفاق بشكل استراتيجي ومستدام سوى بشكل بسيط مثل الافراج عن بعض اصولها المجمدة في الخارج او شراء بعض الطائرات المدنية.
وكانت ادارة اوباما تعتقد انه لو لم يتم الغاء الحظر بشكل جزئي وناقص لكانت ايران لا ترى حاجة للتفاوض مع اميركا في شؤون اخرى نتيجة ازدهارها الاقتصادي وتقوية برنامجها الصاروخي ونفوذها الاقليمي، ولذلك رد الاميركيون على العتاب الايراني بشأن عدم الغاء الحظر بربط القضية بالسياسات الايرانية غير النووية.
وعلى سبيل المثال يمكن الاشارة الى ما قاله وزير الخارجية الاميركي الاسبق جون كيري في مقالبة مع مجلة فان افيرز في عام 2016 حيث اكد بان سياسات ايران في دعم بشار الاسد وحزب الله هو سبب عدم تمتعها بفوائد رفع الحظر.
ونتيجة لهذه السياسات اعلن رئيس البنك المركزي الايراني في شهر مارس 2016 ان ايران لم تحصل على شيء من الاتفاق النووي، وبعد شهر من ذلك قال جون كيري في مقابلة دافع فيها عن سياسات ادارة اوباما فيما يتعلق بالاتفاق النووي ان ايران انتفعت بمقدار 3 مليارات دولار فقط من الاتفاق النووي.
استلم بايدن زمام الامور من دونالد ترامب في البيت الابيض بعد ان ادى انسحاب اميركا من الاتفاق النووي الى قيام ايران بوضع القيود على تخصيب اليورانيوم ونسبة التخصيب وكمية المواد المخصبة والابحاث والتطوير، جانبا وفشلت سياسة ترامب في الضغوط القصوى في تحقيق اهدافها وادت الى احداث شرخ بين اميركا والدول الاوروبية وصعود التيار المبدئي الى الحكم مجددا في الاجهزة التنفيذية للدولة الايرانية وهنا رأى بايدن نفسه امام واجبين يريد القيام بهما، الاول هو اعادة التطور النووي الايراني الى الوراء، والثاني الاطمئنان من ان العودة للاتفاق النووي سيؤدي الى التغلغل في داخل ايران كما كان يحلم اوباما وليس انتفاع ايران اقتصاديا.
ويمكن لمس طريقة تفكير بايدن في مقال نشره في سبتامبر 2020 في قناة سي ان ان، حيث يقول بانه يجب استبدال الضغوط القصوى بـ "الضغط الذكي" والذي كان اساس عمل ادارة اوباما تجاه ايران.
وقال بايدن في مقاله ان العودة الى الاتفاق النووي ليست الغاية الاميركية النهائية واعتبر بان العودة يجب ان تشكل نقطة بداية لاطالة امد الاتفاق النووي وتقويته بالنسبة للاميركيين ويعلم الجميع بان تقوية وتعزيز الاتفاق النووي يعني بالنسبة للاميركيين الربط بين البرنامج النووي الايراني وسياسات ايران الاقليمية.
وبعد مضي 22 شهرا من نشر ذلك المقال يمكن الاستشفاف من خلال التقارير الاعلامية والتصريحات الاميركية والمواقف الغربية وسلوك الوفد الاميركي المفاوض بان ادارة بايدن كانت حتى فترة وجيزة تسعى لربط العودة للاتفاق النووي بهذه الامور لكنها تخلت عن ذلك فيما بعد واجلت هذا الربط لما بعد العودة للاتفاق النووي.
وهنا يمكن الاشارة الى كلام سماحة قائد الثورة الاسلامية عند استقباله اعضاء الحكومة الايرانية السابقة في العام الماضي حيث اكد سماحته "ان الاميركيين يقولون بلسانهم وفي وعودعم بانهم سوف يرفعون الحظر لكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، بل يضعون ايضا شروطا ويقولون بانه يجب تضمين هذا الاتفاق ايضا جملة وهي البحث لاحقا حول القضايا الاخرى، والا لن يكون هناك اتفاق".
كما يبدو واضحا فان بايدن وعلى غرار اوباما لا يعتبر الاتفاق النووي اتفاقا مستقلا ومنفصلا ومحصورا بالشان النووي بل يعتبره خطوة اولى لبرنامج وخطة اوسع وأشمل تؤدي في النهاية الى احتواء جميع مكامن القوة الايرانية وهذا يعني رفع الحظر على الورق فقط على غرار اوباما.
ان ما يحول حتى الان دون عودة اميركا الى الاتفاق النووي وسبب انشغالها بشن حرب متعددة الاوجه من اجل الضغط على الراي العام الايراني لاجبار ايران على القبول بالحل الاميركي، هو رغبة اميركا لوضع الاتفاق النووي في اطارها المطلوب.
وفي المقابل تسعى ايران لجعل الاتفاق النووي مربحا للجميع أي بمعنى الحصول على رفع حقيقي للحظر ازاء تحديد بعض جوانب برنامجها النووي ولذلك وضعت ايران اخذ الضمانات الملموسة لبقاء واستمرارية الاتفاق النووي واختبار المصداقية في رفع الحظر نصب عينها من اجل القبول بالعودة الى الالتزام بالاتفاق النووي مقابل انتفاع اقتصادي ملموس.
اما اميركا تقاوم ذلك حتى الان، ورغم عدم قدرتها للذهاب الى الخطة البديلة التي كانت تتحدث عنها لكنها تحاول عرقلة ايران عبر شن هجمات سيبرانية والسعي لمنع التجارة النفطية بين ايران والصين والتعاون مع الكيان الصهيوني للقيام باعمال تخريبية في المنشآت النووية وحجز شحنات النفط الايراني وغيرها من الخطوات ، لكنها فشلت حتى الان في تحقيق مبتغاها.
وهناك ايضا عوامل ضغط اخرى مثل ضغوطات اللوبي الصهيوني ونواب الكونغرس والدول الاخرى، تثقل كاهل الادارة الاميركية وتساهم في ضعفها في اتخاذ القرار لكن ادارة بايدن التي تعلم بان هؤلاء مجتمعون على السعي للحد من تعاظم القدرات الايرانية عبر الاتفاق النووي، ما زالت تحاول تلبيس الاتفاق النووي باطارها الفكري الذي تحدثنا عنه.
ولذلك يبدو ان اهم عوامل التراجع الاميركي عن القبول بتفاهم للعودة الى الاتفاق النووي هو عدم استعداد الادارة الاميركية للابتعاد عن النظرة الاحادية والالتزام بالتعهدات السابقة، سعيا لمنع الاستفادة الايرانية من المنافع الاقتصادية المتفق عليها.
فارس